واستقبلته ليلى كعادتها مرحبة مبتسمة، وتناولت منه فأسه وحباله .. وقدمت له الطعام فما أكل لقمة واحدة. وبينما هي في طريقها لاحضار الماء ليغسل يديه ووجهه،
أخرج النقود من جيبه و أخذ يقلبها بين يديه بين يديه، ويقارن بين هذا المال وبين زوجته ليلى... إنها تساوي كنوز الأرض جميعها...
خبأ سالم النقود عن عيون ليلى حتى لا تسأله عن مصدرها... وخرج يتمشى وهو يفكر في طريقه يتخلص بها من هذا اليهودي، وأطال المشي، حتى مضى وقت طويل من الليل، فعاد الى البيت وهنا ظهر له اليهودي وقال:
ما الذي يقلقك يا سالم!؟ أنت تفكر في طريقة تتلخص بها مني وتقتلني! ولكن هيهات! أما كفاك ما رأيت في يومك؟! ألم تتعظ بما كان؟ غير أفكارك، وإلا .. وإلا ذبحتك وذبحتها وأخذت الكنز وحدي.
فتملك سالماً رعب عظيم، ورجع الى بيته يلتفت خلفه ويستعيذ بالله من هذا الشيطان الرجيم. ولما دخل بيته وجد ليلى نائمة، تعلو محياها مسحة من الطمأنينة. لقد انتظرته طويلا غلبها النعاس، ولما دخل لم تصح، فتركها نائمة.
ظل سهرانا حتى الفجر، عندها انسل من المغارة وهي نائمة، ومضى للقرية؛ واشترى لحما وخضرا وفاكهة ودجاحة بدينار، وابقى معه الباقي وقال في نفسه:
- لقد أقامت معي مدة ثلاثة اشهر وهي تسهرعلى راحتي وتحاول اسعادي، ولم أجد ما أسعدها به، وهذا آخر يوم من عمرها، فلتطبخ وتأكل وتهنأ. وحمل ما اشتراه ومضى به الى ليلى فاستقبلته مرحبة، وقالت له : -لقد شغلت قلبي بغيبتك.
ولما تناولت منه الحاجات قالت له: ما هذا؟ألديك دعوة؟حسنا... سأقوم بواجب ضيوفك خير قيام.
وخنقته العبرة وقال لها : لا ليس عندي ضيوف. كل ما في الامر أني لأقيت دينارا، فاشتريت هذه الحاجة لكي نتغدى معا ونشبع ولو يوما في العمر، فإني لا أنوي أن أذهب الى العمل ، و سأبقى قريبا منك.
قالت ليلى:
-شكرا لك.. اسأل الله أن يفتح لك سبل الرزق، وتلاقي كنزا، وتعيش غنيا هانيء البال موفور النعمة.
لم يتحمل سالم كلام زوجته اللطيف، خصوصا وقد دعت له بأن يلاقي كنزا، ولذلك تركها والدموع في عينيه وانصرف خارج البيت. وقعد في جوار صخرة يبكي بحرقة أما ليلى فقد غسلت الفاكهة، ووضعت اللحم والدجاج على النار لتنضجها بسرعة وهي تحدث نفسها:
- إنّ سالماً جائع .. لم يطعم في ليلته ولم يفطر في صباحه، فلأجعل له الغداء، وقامت تقشر الباذنجان بسرعة، وكانت السكين حادة، فجرحت يدها جرحا عميقا. وتدفق الدم غزيراً، فنفضت يدها بقوة من الألم فانتشر الدم على الصخرة الملساء في المغارة، وكانت المفاجاة الكبرى ..! سمعت دوياً هائلاً في أسفلها، والذهب ينساب منها قطعاً صغيرة وكبيرة.
صرخت ليلى ...
-ما هذا؟ ما هذا..كنز؟ ذهب؟ ماذا أفعل ..؟
خرجت ليلى مسرعة تدعو زوجها... ولكنه وضع يديه على أذنيه لا يريد أن يرد عليها لشدة حزنه.. فلما وصلته وجدته يبكي بحرقة وألم، فأشفقت عليه وسألته :
- ما الذي يبكيك؟
قال : لا شـــيء ...
قالت : بل تقل لي .. لا بد أن أعرف .. وظلت تلح عليه فأخبرها بسره، وحدثها عن كل ما جرى له منذ أن شاهد اليهودي على تلك الساعة .. ولكن ليلى ابتسمت وهي تقول :
- قم لا تحزن إن تحزن إن الله معنا ..لقد انفتح ، وهو لنا ، ولن ينال اليهودي منه شيئاً. هو لنا ونحن أصحاب الحق فيه وسندافع عنه، ولو أدى الأمر الى قتل ذلك اللئيم.
قام معها ومضيا الى البيت فوجدا الذهب لا يزال نازلا والمغارة تكاد تمتلىء. عجب سالم لما رأى، وأدهشه لطف الله بهذه المرأة الطيبة، ولكنه تذكر اليهودي اللئيم فقال: وماذا نفعل اذا حضر اليهودي؟
قالت ليلى : ترد له نقوده وترجعه من حيث أتى.
قال سالم : إنه لا يقبل بذلك، وهو خبيث المكر ، شديد الدهاء، صعب المراس، ولن يرضى بأقل من نصف الكنز.
قالت ليلى : الكنز كنزنا ولن ندفع له شيئاً منه، ولن نسمح له بأن يغتصب حقنا؛ واعلم ان اليهودي لا يستطيع قتلي الا بدون معاونتك لحضر قبل اليوم وقتللني في غيابك. فلقد كنت ألاحظه أحياناً يمر من هنا ...
ادرك سالم ان كلامها صحيح، فقويت عزيمته. وفجأة دق الباب دقا عنيفا فاذا هو اليهودي قد حضر. قال اليهودي :
- إفتح لي الباب يا سالم.
قال سالم : ارجع من حيث أتيت فقد انتهى الأمر.
قال اليهودي : افتح والا لقيت جزاء عنادك.
قال سالم : قلت لك ارجع، والا قاومناك.
قال اليهودي وقد زاد غيظه وحنقه :
-افتح يا سالم، والا خلعت الباب ودخلت عليك عنوة فذبحتك وذبحت امرأتك جزاء عنادك وخلافك.
قالت ليلى :
- يبدو أن أجلك قد حضر يا شقي ، جرب وادخل، ولسوف تلقى مصرعك الآن. وحملت ليلى السكين ووقفت على يمين الباب، وحمل سالم فأسه الحادة على يسار الباب. وبعد قليل خلع اليهودي الباب وانتزعه من موضعه، ودخل هائجا ثائراً. ولكن! ما أن
- أبصر الذهب بلمعانه ووهجه ، حتى هجم عليه لا يريد تركه. وقد صمم أن يستولي عليه كله. ونظر الى الخلف فرأى ليلى تحمل السكين، ورأى سالماً يحمل الفأس، فأسرع يحرك يديه بحركات غريبة في وجه سالم ويقول :
- بحق شوبش شمهورش قف كما أنت : وفعلاً تجمد سالم كالتمثال حاملا فأسه بيده.. وهجم متردداً على ليلى، يريد أخذ السكين منها، فما كان منها ألا أن صرخت : يا مغيث..
وفجأة دوى صوت هائل ، وظهر عملاق كبير، هو خادم الكنز؛ وأخذ يقول:
- شبيك لبيك عبدك بين ايديك.. وهجم العملاق على اليهودي وضربه ضربة قوية على رأسه، فوقف لها قبله، وتلفت منها أعصابه ودماغه ومات... فحمله ورمى به بعيداً خلف الجبال برمية من يده وكأنه يحمل حجراً صغيراً..
تنهدت ليلى وقالت : الحمد لله... ونظرت إلى زوجها وهي متألمة لما حصل له .. فقال العملاق خادم الكنز لسالم :
- لولا أنك قاومت هذا اليهودي، ودافعت عمن نفسك وزوجك، ورفضت الخضوع لارادته الخبيثة بأن يذبح امرأتك، لألحتقك به ... ولمس العملاق سالما فعاد سالم إلى وضعه.
قال العملاق لليلى : اسمحي لي الآن أن انصرف، وإذا احتجت أمراً؛ ادعيني فأحضر لك.
لست ليلى مع زوجها سالم يفكران بالكنز الذي فتح لهما .. وبالذهب الذي أصبح لهما. قال سالم :
- سأبنى لنا بيتاً كبيراً في المدينة، وسأشتري لك خواتم جميلة... وسيارة جديدة... وبينما كان سالم يتحدث عن مشاريعه الجديدة؛ كانت ليلى تفكر بأمر آخر ... تفكر بأبيها وأهلها .. وقالت: سالم : أريد أمراً واحدأ لا غير.
قال سالم : وما هو؟... أريد أن أرى والدي فلقد طالت غيبتي عنه وعن أهلي. ثلاثة أشهر وأنا أحلم بهم ليل نهار، وقد كنت لا أتكلم عن هذا الموضوع لانني كنت أقدِّر وضعك وتعبك طول النهار في جلب الحطب.. أما الآن فيجب أن أسعى لمعرفة مكانهم.
قال سالم بعد تفكير : ليس عندنا الا العملاق خادم الكنز هو الذي يستطيع أن يساعدنا في ذلك. وقفت ليلى ونادت على العملاق :
-يا مغيث. يا مغيث. ودوى صوت هائل خرج إثره العملاق يقول: شبيك لبيك عبدك ما بين ايديك.
قالت ليلى :
-أريدك أن تفتش لي عن والدي الشيخ غانم أريد أن أراه ... وفي الحال اختفى العملاق وبعد لحظات ، كان العملاق عائداً يحمل بين يديه الشيخ غانم، والشيخ غانم مندهش خائف لا يعرف ماذا يحصل له... وما إن رأى الشيخ غانم إبنته حتى أقبل عليها يعانقها من بعد طول غياب ودموع الفرح في عينيهما... وحدثته ليلى بقصتها، وحدثها الاب أنه لم يفتقدها في ذلك اليوم إلا عند العصر، وقد قطعوا مسافة طويلة، فأرسلوا اثنين يفتشون عنها.
وحمدوا الله على لمِّ شملهم.. وعاش الجميع في سعادة وثبات، وخلَّفت ليلى البنين والبنات.